يقول الله ان الكتاب المقدس حق, او لعل الكتاب المقدس هو الذي يقول ان الله حق, لك ان تختار بأيهما تبدا واين تنتهي. قد يكون قد سبق لك ان آمنت بوجود الله, ثم وجدت الكتاب المقدس الذي يدّعي ويثبت انه من عند الله, او لم تكن تؤمن بالله, الا انك انبهرت بالكتاب المقدس وما فيه من نبوات ومعجزات قام بها كتبته, فالامر سيان, والله وكتابه المقدس صنوان.
والله هذا اله الخير والاحسان, كذلك يقول الكتاب المقدس, ذلك الكتاب الذي اعتلى في انتشاره ما سواه من الكتب على مر العصور وخطته ايادي صانعة للعجائب والآيات. قد يدّعي امرء انه رباني وهو شرير, لا يجعل ذلك من الله شرير, فالله يتبرأ من كل ما هو شر, ويقدم ذاته على انه مصدر السعادة الدائمة والبريئة, وانه بالحق اهل لنا بان نبحث لديه عن سعادتنا.
غير ان الحقيقة الاخرى هي ان عالمنا هذا مليء بالشر.
ولا يبدو ان هنالك منطقا في كل ذلك, وبالرغم من ان كل المنطق يكون في ثقتنا بالكتاب المقدس كدليلنا الى هذا الكون والى الله خالق هذا الكون والى علاقتنا مع الله, فان ما يحتويه الكتاب المقدس هو غير معقول, فمن اين اتى كل هذا الشر ان كان الله اله الخير وخالقه؟
وكيف يسمح الله بوجود الشر ان كان حسنا قويا؟
سؤال مشروع, حتى على الرغم من انه يُسأل لاسباب غير وجيهة. فالبعض يسأل ذلك طالبا معرفة الجواب, بينما يسأله البعض الاخر لا لشيء الا لانهم قرروا مسبقا ان الايمان بالله هو ضرب من الحماقة.
سنتناول في هذا الفصل الهدف من المعاناة. قد لا يرغب البعض سماعنا ونحن نقول ان مع العسر يسرا, وان الالم يأتي ببركة, وان لكل ابتلاء هدف سامٍ, وان حتى لابشع الكوارث في التاريخ جانبا مشرقا, الا ان هذه هي الحال. فالشر والالم والمعاناة كلها واقع حال, وسنرى في هذا الفصل كيف يمكننا ان نستفيد من هذا الواقع, اما في الفصل التالي فسنتحدث عن واقع المعاناة.
بادئ ذي بدء, ينفعنا الشر بتعريفنا بالخير, اذ لن تعرف ما هو الخير ان لم يكن هناك شر. قالت العرب مثلا ان الصحة تاج على رؤوس الأصحاء, لا يراه إلا المرضى, اي انك لن تعرف الصحة ما لم تجرب المرض, ولن تثمن الخير الذي تعيش فيه لو يعرف عالَمك الالم, ولن يكون لقولك ان الله اله خير اي معنى لو لم تعرف ما هو الخير, ولن تعرف ما هو الخير لو لم تعرف ما هو الشر. قال احد المغنين الانجليز واسمه (باسنجر Passenger)
انما تحتاج النور عندما يخفت لهيب مصباحه
وتشتاق للشمس لما ينزل الثلج
وتعرف حبيبتك لما تهجرك
وتعرف انك كنت سعيدا يوم تشعر بالحزن
وتكره الطريق يوم تشتاق للبيت
فالشر لا خير فيه الّا انه يعلّمك الخير, ولا يمكنك ان تكون شاكرا لطعامك ما لم تعرف الجوع, او الماء ما لم تكن عطشانا, ولا تقدر ان تشكر لثياب ترتديها ما لم تجرب خزي العري امام الناس, فان كنت تقرأ هذا فاعلم انك على قيد الحياة, وان كنت على قيد الحياة فاعلم ان هناك من هو في حاجة اشد من حاجتك ويعاني اكثر منك وهذا بحد ذاته سببا وجيها لتكون شاكرا هذا اليوم.
والشر ايضا يقويك ويبني شخصك ويساعدك على تقوية عظمك الذي لم يكن لينمو لو ولدت وربيت في دلال. يقول الكتاب المقدس اننا "نَفْتَخِرُ أَيْضًا فِي ٱلضِّيقَاتِ، عَالِمِينَ أَنَّ ٱلضِّيقَ يُنْشِئُ صَبْرًا، وَٱلصَّبْرُ تَزْكِيَةً، وَٱلتَّزْكِيَةُ رَجَاءً، وَٱلرَّجَاءُ لَا يُخْزِي," رومية 3:5-5.
فالله لم يخلق الشر كما يقول الكتاب المقدس, الا انه بقدرته سمح بوجود الشر لسبب لن تستطيع فهمه ما لم تغص بحكيم كلمته.
وثالثا, يسمح الله بالشر لتأديبنا يوم نخالفه ونشذ عن سبيله, ففي الكثير من الاحيان يكون الشر تذكيرا لنا بتفحص مسيرتنا مع الله او عدمها, لنعود الى الله ولنصير اناس افضل. هل انت اب؟ هل تعرف اي اب يحسن ابوته؟ اذ ان هذا ما يفعله الاب الحسن, فهو يأدب اطفاله لما يسيؤون الادب, ليجعل منهم اناس افضل. يقول الكتاب المقدس انه " يُعَامِلُكُمُ ٱللهُ كَٱلْبَنِينَ. فَأَيُّ ٱبْنٍ لَا يُؤَدِّبُهُ أَبُوهُ؟ وَلَكِنْ إِنْ كُنْتُمْ بِلَا تَأْدِيبٍ، قَدْ صَارَ ٱلْجَمِيعُ شُرَكَاءَ فِيهِ، فَأَنْتُمْ نُغُولٌ لَا بَنُونَ. ثُمَّ قَدْ كَانَ لَنَا آبَاءُ أَجْسَادِنَا مُؤَدِّبِينَ، وَكُنَّا نَهَابُهُمْ. أَفَلَا نَخْضَعُ بِٱلْأَوْلَى جِدًّا لِأَبِي ٱلْأَرْوَاحِ، فَنَحْيَا؟ لِأَنَّ أُولَئِكَ أَدَّبُونَا أَيَّامًا قَلِيلَةً حَسَبَ ٱسْتِحْسَانِهِمْ، وَأَمَّا هَذَا فَلِأَجْلِ ٱلْمَنْفَعَةِ، لِكَيْ نَشْتَرِكَ فِي قَدَاسَتِهِ."
ويتفق الكتاب المقدس في ان التأديب مؤذٍ, الا انه يقول ان المه لن يستمر الى الابد, وان نتيجته تستحق الصبر: " وَلَكِنَّ كُلَّ تَأْدِيبٍ فِي ٱلْحَاضِرِ لَا يُرَى أَنَّهُ لِلْفَرَحِ بَلْ لِلْحَزَنِ. وَأَمَّا أَخِيرًا فَيُعْطِي ٱلَّذِينَ يَتَدَرَّبُونَ بِهِ ثَمَرَ بِرٍّ لِلسَّلَامِ." عبرانيين 7:12-11.
او لعلكِ تكونين امّا فضلى, او تعرفين امراة احسنت امومتها, وتعرفين ان الامهات يحببن اطفالهن محبة لا يفهمها الا الامهات, ومن محبة الام لطفلها انها تريده ان يتواصل معها. قد تكون اقوى رجل على هذه الارض, لا يعني ذلك لوالدتك بشيء, فهي تفضّل ان تسمعك وانت تشكو اليها المك وتشارك معها معاناتك على ان تفتل لها عضلاتك. وفي هذا السياق, يشبه الله امّا فضلى, وهو يحبك ويريدك ان تتواصل معه محدّثا اياه بما يجري في حياتك من الام ومآس واحتياجات وما الى ذلك. يقول الكتاب المقدس " أَعَلَى أَحَدٍ بَيْنَكُمْ مَشَقَّاتٌ؟ فَلْيُصَلِّ," يعقوب 13:5.
والشر ايضا يجرب ايمانك بالله.
سنتحدث الكثير عن الايمان في هذا الكتاب, اذ يبدو ان الله يحب الايمان به.
يعرّف الايمان بانه الثقة بالمخفي والسير على وفق تلك الثقة. وهو يتطلب ان تتبع الله في احلك الظروف. يقول الكتاب المقدس " وَأَمَّا ٱلْإِيمَانُ فَهُوَ ٱلثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَٱلْإِيقَانُ بِأُمُورٍ لَا تُرَى," عبرانيين 1:11, وان الله يريد منك ان تؤمن به الى درجة ان " بِدُونِ إِيمَانٍ لَا يُمْكِنُ إِرْضَاؤُهُ، لِأَنَّهُ يَجِبُ أَنَّ ٱلَّذِي يَأْتِي إِلَى ٱللهِ يُؤْمِنُ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ، وَأَنَّهُ يُجَازِي ٱلَّذِينَ يَطْلُبُونَهُ." عبرانيين 6:11.
ويريد الله منك ان تبدي ايمانك به, ولذلك يضعك في ظرف حالك ليعطيك فرصة اثبات ايمانك, وان قلت ان هذا الامر سخيف, فلا تقل لامرأة "احبّكِ" لانها ستقول لك "ارِني اخلاص حبّك."
اقتبسنا, حتى الان, الفصل الحادي عشر من الرسالة الى العبرانيين مرتين في حديثنا عن الايمان, وفي الواقع يطلق البعض على هذا الفصل اسم "قاعة الايمان." اقرا فيه امثلة عن اناس اظهروا ايمانهم بالله وكيف سلكوا باحلك الظروف مصدقين بوعده لهم ولو كان خفيا, لو كانت لديك خمس دقائق. وفي مكان اخر, صرّح الله مباشرة لمن اتبعه انه سمح لهم ان يتعذبوا اربعين عاما ليختبرهم, قائلا "وَتَتَذَكَّرُ كُلَّ ٱلطَّرِيقِ ٱلَّتِي فِيهَا سَارَ بِكَ ٱلرَّبُّ إِلَهُكَ هَذِهِ ٱلْأَرْبَعِينَ سَنَةً فِي ٱلْقَفْرِ، لِكَيْ يُذِلَّكَ وَيُجَرِّبَكَ لِيَعْرِفَ مَا فِي قَلْبِكَ: أَتَحْفَظُ وَصَايَاهُ أَمْ لَا," تثنية 2:8.
واخيرا, يخدم الشر هدفا ساميا وخطة عظيمة في انه يعدّك لتساعد الاخرين عندما يعانوا.
لا يؤلم الجرح الا من به الم, ولا يشعر احدا بمرض عضال ما لم يكن قد جربه هو او يجربه, ولا يفهم احد الفاقة الا من اعتاز. قالت العرب "ان الشبعان لا يدري بالجوعان," ينطبق ذلك على الثكلى والمكتئب والخائف ومنكسر القلب وما شابه.
ويَذكر الرسول بولس تلك الحقيقة في احدى رسائله, حين شكر الله " ٱلَّذِي يُعَزِّينَا فِي كُلِّ ضِيقَتِنَا، حَتَّى نَسْتَطِيعَ أَنْ نُعَزِّيَ ٱلَّذِينَ هُمْ فِي كُلِّ ضِيقَةٍ بِٱلتَّعْزِيَةِ ٱلَّتِي نَتَعَزَّى نَحْنُ بِهَا مِنَ ٱللهِ." كورنثوس الثانية 4:1.
يعطي الايمان لحياتك بُعدا جديدا, ويعزيك مذكرا اياك ان الامور ستسير على ما يرام, وان معاناتك لن تدوم الى الابد, وانها ستنتهي عن قريب, والنهاية ستكون سعيدة دائما وابدا. ولا يرى المرء الماضي او المستقبل بدون الايمان, ويبدو الالم حينه وكانه نهاية العالم. اما بالايمان فينال المرء منظورا سرمديا يتلاشى فيه الالم ليصبح وكانه فترة اختبار لن تلبث ان تزول, وكأن الايمان يضع ساعة توقيت تعدّ عدّا تنازليا لألمك لتمكنك من احتماله, غير ان الايمان الحقيقي هو ذلك المؤسَّس على وعود الله الصادقة في الكتاب المقدس, والتي تتطلب ان تعاني وانت مظلوم لا ظالم. فاذا ما عانيت السجن مثلا بسبب جريمة ارتكبتها, تكون معاناتك حينها لك وحدك ولا تقر لك القوانين الحكومية حقك بنهاية سعيدة لك حتى تنهي محكوميتك. يقول الرسول بطرس في رسالته الاولى "فَلَا يَتَأَلَّمْ أَحَدُكُمْ كَقَاتِلٍ، أَوْ سَارِقٍ، أَوْ فَاعِلِ شَرٍّ، أَوْ مُتَدَاخِلٍ فِي أُمُورِ غَيْرِهِ. وَلَكِنْ إِنْ كَانَ كَمَسِيحِيٍّ، فَلَا يَخْجَلْ، بَلْ يُمَجِّدُ ٱللهَ مِنْ هَذَا ٱلْقَبِيلِ." بطرس الاولى 15:4-16. تعِدك المعاناة لما هو حق بمستقبل فاضل وبنهاية سعيدة, ويقول الكتاب " أَنَّ آلَامَ ٱلزَّمَانِ ٱلْحَاضِرِ لَا تُقَاسُ بِٱلْمَجْدِ ٱلْعَتِيدِ أَنْ يُسْتَعْلَنَ فِينَا." رومية 18:8.
انما الشر ومعاناته ذوي نفع ولو لم يكونا خير.
ولكن لنعد الى سؤالنا, فان كان الله اله خير, وان صنع خليقة حسنة, فلماذا نتكلم اذاً عن الالم؟
(الدرس التالي مأخوذ من كتاب "الطريق إلى سعادتك" بإذن من المؤلف، وسام يوسف.)