top of page

تفسير الله: إله واحد أم ثلاثة؟

صعوبات استيعاب الله

هل يقول الكتاب المقدس إن ثمة إله واحد أم ثلاثة آلهة؟ يُثار هذا السؤال الصعب في أول آيات الكتاب المقدس. يقول التكوين 1: 1 "فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ". في اللغة الأصلية للكتاب المقدس، جاءت كلمة "الله" اسمًا في صيغة الجمع، وجملة "خَلَقَ" فعلها في صيغة المفرد. وعليه، أيهما هي هويته؟ هل كان من البدء كائنًا واحدًا أبديًا كُلي القوَّة الخالق لكل شيء، أم عِدة آلهة ذوو قُدرة خلقوا معًا الكون وما فيه؟ من ناحية، نقرأ آية مثل إشعياء 44: 24 تقول: هَذَا مَا يَقُولُهُ الرَّبُّ فَادِيكَ وَجَابِلُكَ مِنَ الرَّحْمِ: "أَنَا هُوَ الرَّبُّ صَانِعُ كُلِّ الأَشْيَاءِ، الَّذِي نَشَرَ السَّمَاوَاتِ وَحْدَهُ، وَبَسَطَ الأَرْضَ بِنَفْسِهِ. مَنْ كَانَ مَعِي حِينَذَاكَ؟ " ومن ناحية أخرى، تُشير آيات مثل أيوب 33: 4، والعبرانيين 1: 2 إلى مشاركة آخرين في عمليَّة الخلق. إذ تقول أيوب 33: 4 "رُوحُ اللهِ هُوَ الَّذِي كَوَّنَنِي، وَنَسَمَةُ [الْقَدِيرِ] أَحْيَتْنِي" وتقول العبرانيين 1: 2 "أَمَّا الآنَ، فِي هَذَا الزَّمَنِ الأَخِيرِ، فَقَدْ كَلَّمَنَا بِالابْنِ، الَّذِي جَعَلَهُ وَارِثاً لِكُلِّ شَيْءٍ، وَبِهِ قَدْ خَلَقَ الْكَوْنَ كُلَّهُ! " يتضح من الكتاب المقدَّس أن "كلتا الإجابتين صحيحتين". إذ يوجد إله واحد خلق الكون برمته، وهذا الإله الواحد له ثلاثة أقانيم متمايزة. دعوني أوضح هذا باستفاضة.


إله واحد

كان بنو إسرائيل، تحديدًا، قديمًا- قبل مجيء الرب يسوع- أول من نادوا بالتوحيد، أو عبادة الله الواحد القدير. الذي عُرِف في أسفار العهد القديم باسمه الشخصي "يهوه"؛ الاسم الذي هو صيغة مشتقة من الاسم العبري "آهية" (أنا هو أو أنا كائن).


يسمو "يهوه" بشخصه وطبيعته فوق الخليقة كلها. فما من شبيه له، فهو وحده الله القدير. وثمة كائنات قوية أخرى أيضًا، فكلمة "إله" في لُغة الكتاب المقدس الأصلية تعني "الكائن القوي". إذن، ثمة العديد من الكائنات الروحيَّة القويَّة، أو الآلهة. وها نحن نعرفهم أيضًا بأنهم الملائكة أو الشياطين. وقد يُدعى البشر في بعض الحالات آلهة (مزامير 82: 6) لأنهم خٌلقوا على صورة الله ومثاله. ومع ذلك، ثمة إله واحد أزلي قدير خلق تلك الكائنات القوية جميعها. اسمه يهوه.


يُعلمنا الكتاب المقدس أن يهوه واحد وحيد، الله القدير ولا يوجد سواه. ثمة طبيعة إلهيَّة واحد وحيدة. إله كُلي القوة، وسرمدي، ومستقص العدل المطلق والأنزه في قضائه، وفي الوقت ذاته، كلي المحبة والرحمة بلا نظير. الحال في كل مكان في آن واحد. خالق كل الأشياء، وبمشيئته يحفظها ويحملها. فليس له نظير، لذا يُعلم الكتاب المقدس بأن الله واحد. تقول تثنية 6: 4 "اسْمَعُوا يَابَنِي إِسْرَائِيلَ: الرَّبُّ إِلَهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ"


حين يُفكر الناس في الله الذي يتكلم عنه الكتاب المقدس، يخطر ببالهم يهوه باعتباره الآب. ففي الواقع تقول افسس 4: 6 إن ثمة "َإِلهٌ وَآبٌ وَاحِدٌ لِلْجَمِيعِ، وَهُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ وَبالْجَمِيعِ وَفِي الْجَمِيعِ" مع ذلك، من الجدير بالذِكر أن يهوه بدوره يُعلن ذاته للبشرية أيضًا بعِدة هيآت غير الآب الذي في ملكوته السماوي. ففي تكوين 18 مثلًا، يرى إبراهيم ثلاثة رجال يقتربون من خيمته، وعرف للتو أن أحدهم، الذي كان يتكلم معه هو يهوه في هيأة إنسان. ففي المقطع 17-21، نجد أن يهوه كان يتحدَّث إلى نفسه. فهل هذا يعني أن الله الآب حينها لم يكن موجودًا في السماوات، أو أنه في حالات بعينها يكون في حالة من عدم الاستقرار؟ كلا. وهل يدل هذا على أن يهوه الذي كان يتحدَّث مع إبراهيم هو هيأة اقل من الله القدير؟ كلا. يهوه قادر على الحلول في كل الأماكن في آن واحد، بالهيأة التي يشاءها (إرميا 23: 23-24.) فيُمكنه أن يكون في هيأة روحيَّة في السماء، وفي الوقت ذاته في هيأة بشرية على الأرض. وأيضًا يظهر في هيآت أخرى غير الله الآب الذي في السماء.


الأقانيم الثلاثة المتمايزة

بدلًا من الشطوح بمخيلاتنا في هيآت يهوه أو ظهوراته المختلفة لنا، يُفضَّل كثيرًا تصوره في هيأة الأقانيم المتمايزة. فتُشير الكلمتان "هيأة" و "ظهور" ضمنيًا إلى مُجرد إعلان مؤقت للجنس البشري. ومع ذلك، الكتاب المقدس يتحدث عن ثلاثة أقانيم عاملة ليهوه. أي ثلاثة تَعَيُّنات متمايزة جميعهم يهوه، الذين هم تَعّيُّنات كائنة بذاتها ليهوه الواحد سرمديًا. وهذا ما يتعارض تمامًا مع قول "ثلاثة آلهة"، لأن فِكرة الآلهة الثلاثة المنفردة الفردانية عادة ما تشير ضمنيًا إلى كائنات قوية منفصلة لكل منها مشيئته الخاصة، بل أحيانًا المتنافسة. كما لا يُمكن تشبيههم أيضًا بالأشقاء التوائم على سبيل المثال؛ لأنه ربما يوجد بينهم أوجه تشابه لكن كل أقنوم (شخص) متباين عن الآخر. ولا بد من وجود اختلاف ما بين الأشقاء مهما كثرت أوجه الشبه بينهم. أما على الجهة الأخرى، نجد يهوه مختلفًا كل الاختلاف عما يخطر ببالنا من آلهة أو بشر. فطبيعته واحدة، وشخصيته واحدة، ومشيئته واحدة، وهو كائن وحاضر في ثلاثة أقانيم متمايزة، ولكنهم متساوين وواحد في الجوهر.


الآب

الله الآب هو الأقنوم الأسرع للذهن إدراكه، الذي كنا بصدده بالفعل. وكثيرًا ما تُشير أسفار العهد القديم إلى أقنوم الآب ليهوه، لأنه الخالق، والقادر، والذي يحنو على شعبه- أبنائه- ويرعاهم. تقول تثنية 32: 6 " أَلَيْسَ هُوَ أَبَاكُمْ وَخَالِقَكُمُ الَّذِي عَمِلَكُمْ وَكَوَّنَكُمْ؟ "


الابن

يفترض كثيرون إنه حينما يُشير الكتاب المقدس إلى يهوه على أنه الله أو الرب، يقصد الآب تحديدًا. ولكنه ربما يقصد غير ذلك. فقد تعلمنا مؤخرًا مما قاله الرب يسوع المسيح إن يهوه له أقانيم أخرى منذ الأزل. ففي يوحنا 1: 1 و14 و18 يقول: "فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ. وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهُ. وَالْكَلِمَةُ صَارَ بَشَراً، وَخَيَّمَ بَيْنَنَا، وَنَحْنُ رَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدَ ابْنٍ وَحِيدٍ عِنْدَ الآبِ، وَهُوَ مُمْتَلِىءٌ بِالنِّعْمَةِ وَالْحَقِّ. مَا مِنْ أَحَدٍ رَأَى اللهَ قَطُّ. وَلَكِنَّ الابْنَ الْوَحِيدَ، الَّذِي فِي حِضْنِ الآبِ، هُوَ الَّذِي خَبَّرَ عَنْهُ. " الكلمة الكائن منذ البدء وخالق كل شيء هو الرب يسوع، الأقنوم الثاني الأزلي ليهوه. ويقول الرب يسوع مُتحدثًا عن ذاته في رؤيا يوحنا 1: 8 "أَنَا الأَلِفُ وَالْيَاءُ الْبِدَايَةُ وَالنِّهَايَة. هَذَا يَقُولُهُ الرَّبُّ الإِلهُ الْكَائِنُ الَّذِي كَانَ الَّذِي سَيَأْتِي، الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ".


الرب يسوع فريد في كل شيء لأنه كامل الألوهيَّة والبشرية على حدٍ سواء. تقول كولوسي 2: 9 "فَفِيهِ، جَسَدِيّاً، يَحِلُّ اللهُ بِكُلِّ مِلْئِهِ" المثير للاهتمام في هذه الآية أنها تُشير إلى أن الرب يسوع يحل (صيغة الزمن الحاضر) في الجسد. فهو الله اللاهوت السرمدي الكائن ثم حُبِلَ به ليحل في جسد بشري. ومات وقام من الموت بجسد مُمجد (يوحنا 20: 27)، الذي على ما يبدو أنه حفظه كما هو بعد صعوده عائدًا إلى السماء. وهذا ما يُعزز تمايُز أقانيم يهوه. والآن يجلس الرب يسوع عن يمين الآب في السماء بجسده. ومع أن الرب يسوع المسيح أيضًا روح (كورنثوس الثانية 3: 17)، لم يتماه فحسب مع الله بعد صعوده، بل ظل متمايزًا أيضًا. تقول العبرانيين 1: 3 إِنَّهُ ضِيَاءُ مَجْدِ اللهِ وَصُورَةُ جَوْهَرِهِ. حَافِظُ كُلَّ مَا فِي الْكَوْنِ بِكَلِمَتِهِ الْقَدِيرَةِ. وَهُوَ الَّذِي بَعْدَمَا طَهَّرَنَا بِنَفْسِهِ مِنْ خَطَايَانَا، جَلَسَ فِي الأَعَالِي عَنْ يَمِينِ اللهِ الْعَظِيمِ.


الروح القُدس

الروح القُدس هو الأقنوم الثالث الذي تحدث عنه الكتاب المُقدَّس. وقد رأينا في المعموديَّة الروح القُدس نازلًا على الرب يسوع والآب من السماء يقول: "هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ، الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ كُلَّ سُرُورٍ" (متى 3: 17). وهنا نرى بتدقيق إشارة جليَّة إلى أقانيم يهوه الثلاثة.


وعد الرب يسوع -قبل صعوده عائدًا إلى السماء وجلوسه عن يمين الآب- بإرسال روح الحق المُعزي (يوحنا 14: 16-17). إذ قال لتلاميذه إنهم سيعلمون بذلك إنه حاضر وحال مع الآب وفي الوقت ذاته حال معهم وفيهم بالروح (يوحنا 14: 19-20). فما يعنيه الرب يسوع بقوله إنه لن يترك تلاميذه يتامى (يوحنا 14: 18). إن الأقنوم الثالث ليهوه — الروح القُدس — كائن مع شعبه في الكنيسة إلى اليوم.


كان روح يهوه في العهد القديم يتجلى لشعبه داخل الهيكل (أو خيمة الاجتماع). ويرى الشعب مجد يهوه الذي يحفظهم ويُرشدهم في أوقات بعينها (إشعياء 63: 7-14). وبالمثل، فكل من يعترف بالرب يسوع مُخلصًا وإلهًا يحل عليه الروح القُدس الذي يحفظه ويُرشِده (افسس 3: 16؛6: 17). وهذا يعني أن يهوه مع المؤمن. إنه مع المؤمن حتى في أثناء مكوثه في السماء لأنه هو الله الآب والرب يسوع في آن واحد. إنه الأقانيم الثلاثة. الآب، والابن، والروح القُدس المتحدون في المشيئة والقصد، والثلاثة هُم الله القدير بأكمله.


أهمية الله الواحد والأقانيم الثلاثة

ارجو ان نقدَّر الان أهمية وجود إله واحد وحيد كُلي القوة والسيادة. وهذا يعني عدم وجود مجال للموهومية. فطبيعته وشخصه، كما يعلن الكتاب المقدس، كاملين وبلا نظير. فالإنسان لا يؤذي سوى نفسه حين يُنقِص من الطبيعة الإلهيَّة إلى هيأة الآلهة المتنافسة التي يقتصر سُلطانها وتأثيرها على جوانب بعينها. فما يجول في مُخيلة العالم من آلهة عادة ما تكون بعيدة، وغير مكترثة ومتقلَّبة. أما على الجهة الأخرى فتجد الكتاب المُقدس يتحدَّث عن يهوه كونه مصدر حياتنا ووجودنا اللصيق بنا، الراغب في إقامة علاقة حميمية مع كل منا (أعمال الرسل 17: 27-28)!


تُعزز أقانيم يهوه الثلاثة سوى فِكرة الحميميَّة مع الجنس البشري. فالآب في السماء يعرف احتياجاتنا ويمنحنا إياها (متى 6: 8، 30). وابن الله هو يهوه الذي تجسَّد ونزل إلى الأرض في صورة الرب يسوع. واختبر كل ما يختبره الإنسان. ولهذا، فهو يرثى لضعفاتنا كونه رئيس كهنتنا الأمين والرحيم، وقد اختبر الحياة والموت الجسدي وغَلَبه. والآن، غلب الموت بالإنابة عنا، ويشفع فينا أمام الآب (العبرانيين 2: 14-18). الروح أيضًا هو نائب يهوه الإله، باستثناء ما وصِف به أنه لا يزال يحيا في المؤمنين اليوم (رومية 8: 15). كل أقنوم متمايز عن الاثنين الآخرين، لكن الثلاثة جميعهم هُم الله الكامل، متحدين جميعهم في القصد والمشيئة: استرداد الضالين والخُطاة المُصارعين إلى يهوه.

منشورات ذات صلة

bottom of page