مُحَيرة حياتنا في بعض الأحيان، فثمة أيام نشعر فيها بأهميتنا، ونحلم أحلامًا كبيرة، وتكون لنا هوايات وشُغُف نعمل من أجلها ونستمتع بالحديث عنها. وأيام أخرى نشعر فيها وكأننا نُهدر وقتنا. وقد نشعر بأن كل ما في الحياة غير مُجدٍ وباطل، كنسمة الهواء التي لا تستطيع قبضها بيدك أبدًا، وقبل أن تدرك هبوبها، تكون قد سافرت.
كثيرًا ما نطرح هذا السؤال "ما الغاية من حياة الإنسان؟" ولطالما ظل الإنسان الناضج في كل العصور والثقافات يتساءل عن نشأته ومصيره. إنه لسؤال منسوج في أعماقنا جميعًا. ومن الواضح أن حدسنا أكثر فِطنة منا بالوقت والواقع. فإلى الآن لم تُقدم لنا النظريات العلمية تفسيرًا لهذه الظاهرة. والعلم ذاته يقف عاجزًا أمام إثبات أن الحيوانات لديها ولو قليل من الإدراك بشأن نشأتها أو مصيرها مثل الإنسان. وهذا لأن خالقنا صمم الإنسان وخصَّه بالقدرة على إدراك الغاية من الحياة، والتي لا نراها بأعيننا في الوقت الراهن. ويقول الكتاب المقدَّس:
إِذْ صَنَعَ [الله] كُلَّ شَيْءٍ حَسَناً فِي حِينِهِ وَغَرَسَ الأَبَدِيَّةَ فِي قُلُوبِ الْبَشَرِ. (الجامعة 3: 11).
استجابة لفضولهم بشأن معرفة الغاية من الحياة، يسلك البشر أحد الاتجاهين: مِن جِهة، يختار البعض تجاهل فضولهم بشأن الأبدية. ويُركزون على نسلهم، أو إرثهم، أو حتى المواد التي يُمكنهم لمسها، ورؤيتها، وتذوقها واختبارها بأنفسهم. ويُدركون أن تلك الأشياء الدنيوية فانيَّة لا محالة، تمامًا مثل أجسادهم. يتحدث الكتاب المقدس عن الأهواء المُخزية لأولئك الرافضين حدسهم الداخلي حيال الله الأبدي، اللاهثين وراء ماديات فانية (رومية 1: 18-23).
من جِهة أخرى، ثمة أناس يسعون لمواصلة إشباع فضولهم حيال الله. فهُم الذين أمامهم فرصة لإيجاد إجابات عما لديهم من أسئلة. وهذا لأننا نتعلم من الكتاب المقدس أن الغاية لن نجدها في الملذات، أو الطموح، أو الحِكمة الأرضيين. فهذه جميعها يمنحنا إياها الله بغرض الاستمتاع بها في وقتها ومكانها. ومع ذلك، خطط يهوه، الله- خالقنا- لشيء أكبر لأجلنا. لقد خلقنا لأجل البِرّ، والمجد والسُلطان الأبدي معه في السماء. وقد أكمل قصده بعمل الرب يسوع المسيح، أو يهوه المُتجسَّد. وحين نُركز أنظارنا إليه، ونسلك الطريق الذي أعده لنا نؤدي دورنا في إتمام قصده.
أين نبحث عن مغزى الحياة؟
ربما اعتبرت بعض الأمور التي تُمتع حياتك وتُشبعها، وتساءلت عما إذا كانت تلك جزءًا من قصد الحياة لك. خُلاصة القول، إن ثمة جوانب في هذه الحياة غاية في المتعة. على سبيل المثال، نستمتع بتناول الأطعمة الشهيَّة والمشروبات. فحين نكون بصحبة الأصدقاء أو العائلة حول المائدة في أي من المناسبات السعيدة، نتناول الطعام، ونتواصل معهم ونحظى بمتعة رائعة. زد على ذلك إن كنا أثرياء نرتدي ملابس فخمة ونسكن منزلًا حديث الطراز، سنمتلئ حينها شعورًا بالإشباع. وإن كنا ناجحين مِهنيًّا لدرجة تسمح لنا بامتلاك سيارة حديثة فارهة، سيزدادشعورنا بالإشباع. ومع ذلك، لو اتخذنا أيَّا من تلك المُتع محورًا لحياتنا، ستُصبح في النهاية مرزولة ومُحتقرة. كما أن امتلاكها لفترات طويلة يسلبها متعتها ويخويها. ولهذا يقول الجامعة في سِفرِهِ:
"فَنَاجَيْتُ نَفْسِي: تَعَالَيِ الآنَ أَمْتَحِنُكِ بِالْفَرَحِ، فَأَسْتَمْتِعَ بِاللَّذَّةِ! وَإذَا هَذَا أَيْضاً بَاطِلٌ. قُلْتُ عَنِ الضَّحِكِ: هَذَا جُنُونٌ، وَعَنِ اللَّذَّةِ مَا جَدْوَاهَا. وَبَعْدَ أَنْ فَحَصْتُ قَلْبِي، حَاوَلْتُ أَنْ أَشْرَحَ صَدْرِي بِالْخَمْرِ، مَعَ أَنَّ عَقْلِي مَازَالَ يُرْشِدُنِي بِالْحِكْمَةِ، وَأَنْ أَخْتَبِرَ الْحَمَاقَةَ حَتَّى أَرَى مَا هُوَ صَالِحٌ لأَبْنَاءِ الْبَشَرِ فَيَصْنَعُوهُ تَحْتَ السَّمَاءِ طَوَالَ أَيَّامِ حَيَاتِهِمْ. فَأَنْجَزْتُ أَعْمَالاً عَظِيمَةً، وَشَيَّدْتُ لِي بُيُوتاً وَغَرَسْتُ كُرُوماً. وَأَنْشَأْتُ لِنَفْسِي جَنَّاتٍ وَبَسَاتِينَ غَرَسْتُهَا أَشْجَاراً مِنْ جَمِيعِ الأَصْنَافِ، وَحَفَرْتُ بِرَكَ مِيَاهٍ لأَرْوِيَ الأَشْجَارَ النَّامِيَةَ، وَاشْتَرَيْتُ عَبِيداً وَإِمَاءً، وَكَانَ لِي عَبِيدٌ مِمَّنْ وُلِدُوا فِي دَارِي، وَاقْتَنَيْتُ أَيْضاً قُطْعَانَ بَقَرٍ وَمَوَاشِي غَنَمٍ، حَتَّى فُقْتُ جَمِيعَ أَسْلافِي مِمَّنْ كَانُوا قَبْلِي فِي أُورُشَلِيمَ. وَاكْتَنَزْتُ لِنَفْسِي فِضَّةً وَذَهَباً، وَكُنُوزَ الْمُلُوكِ وَالأَقَالِيمِ، وَاتَّخَذْتُ لِنَفْسِي مُغَنِّينَ وَمُغَنِّيَاتٍ وَزَوْجَاتٍ وَسَرَارِي، وَكُلَّ مَا هُوَ مُتْعَةٌ لِقَلْبِ أَبْنَاءِ الْبَشَرِ. وَازْدَدْتُ عَظَمَةً حَتَّى فُقْتُ جَمِيعَ أَسْلافِي فِي أُورُشَلِيمَ، دُونَ أَنْ تُبَارِحَنِي الْحِكْمَةُ. وَلَمْ أَحْرِمْ عَيْنَيَّ مِمَّا اشْتَهَتَاهُ، وَلَمْ أَصُدَّ قَلْبِي عَنْ أَيَّةِ مُتْعَةٍ، فَابْتَهَجَ قَلْبِي لِكُلِّ تَعَبِي، وَكَانَ هَذَا ثَوَابِي عَنْ كُلِّ مَشَقَّتِي. ثُمَّ تَأَمَّلْتُ كُلَّ مَا صَنَعَتْهُ يَدَايَ وَمَا كَابَدْتُهُ مِنْ تَعَبٍ فِي عَمَلِهِ، فَإِذَا الْجَمِيعُ بَاطِلٌ، وَكَمُلاحَقَةِ الرِّيحِ، وَلا جَدْوَى مِنْ شَيْءٍ تَحْتَ الشَّمْسِ". الجامعة 2: 1-11
لذا، إن كان السعي وراء الملذات كملاحقة الريح، فهل يعني أننا قد نجد الإشباع الحقيقي في العمل؟ الزهو والفخر ينتابنا بعد عمل أيدينا أو أذهاننا. إذ يُمكن للإنسان تحقيق الكثير بالتركيز في العمل. فالزارع يجد إشباعًا كبيرًا بعد يوم عمل شاق حين ينظر إلى حقله ويتأمل ثمر ماصنعته يداه. وكذلك المُخترع حين يرى كيف صارت حياة الآخرين أفضل بفضل ما قدَّمه للبشرية. والموظف الحكومي المُجِد الذي يُذلل صعاب كثيرة أمام المجتمع، يشعر بأنه أسهم في تغيير العالم. ومع كل ذلك، إن نظرنا إلى كل هذا على المدى البعيدٍ، ندرك أن ما قمنا به من عمل لم يحقق الكثير على الإطلاق. إذ لا يزال الجوع والألم متفشيان في العالم، ولا تزال حروبه مُستعرة، ومجاعاته طاحنة، وظُلمه وجوره لا يهدآن.. وفوق كل هذا، حين ندنو من نهاية أيامنا على الأرض، يضمحل كل هذا ويطويه النسيان. فنُدرك عن حق أن لا العمل يشبع ولا حتى الطموح. في الحقيقة، لاحظ أيضًا كاتب سِفر الجامعة هذا، إذ يقول:
وَكَرِهْتُ كُلَّ مَا سَعَيْتُ مِنْ أَجْلِهِ تَحْتَ الشَّمْسِ، لأَنِّي سَأَتْرُكُهُ لِمَنْ يَخْلُفُنِي. وَمَنْ يَدْرِي: أَيَكُونُ حَكِيماً أَمْ جَاهِلاً؟ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ سَيَتَوَلَّى كُلَّ عَمَلِي الَّذِي بَذَلْتُ فِيهِ كُلَّ جَهْدِي وَحِكْمَتِي تَحْتَ الشَّمْسِ. وَهَذَا أَيْضاً بَاطِلٌ. فَتَحَوَّلْتُ وَأَسْلَمْتُ قَلْبِي لِلْيَأْسِ مِنْ كُلِّ مَا بَذَلْتُهُ مِنْ جَهْدٍ تَحْتَ الشَّمْسِ. الجامعة 2: 18-20
لن يشبع البشر مطلقًا من المُتع الدُنيوية أو العمل. إذن، ماذا عن الحِكمة والمعرفة؟ من المؤكد إننا سنجد إشباعنا الدائم في امتلاكنا كافة الإجابات، أليس كذلك؟ صحيح إن عشنا حياتنا بحماقة، نواجه أحزان ومشقات. وإن عشناها بحكمة، ننعم بحياة النجاح والوفرة. ولكن، كل الحكمة والمعرفة لن يُغيرا العالم وهذا ما يجعلنا تُعساء. هذا بالإضافة إلى أن الرجل الحكيم والأحمق نهايتهما واحدة- الموت. مرة أخرى، يقول كاتب سِفر الجامعة، الذي تطغى عليه في هذه المرحلة مشاعر الإحباط:
فَإِنَّ الْحَكِيمَ كَالْجَاهِلِ، لَنْ يَكُونَ لَهُمَا ذِكْرٌ إِلَى الأَبَدِ، فَفِي الأَيَّامِ الْمُقْبِلَةِ سَيُصْبِحَانِ كِلاهُمَا نَسْياً مَنْسِيًّا، إِذْ يَمُوتُ الْجَاهِلُ كَالْحَكِيمِ. فَكَرِهْتُ الْحَيَاةَ، لأَنَّ مَا تَمَّ صُنْعُهُ تَحْتَ الشَّمْسِكَانَ مَثَارَ أَسىً لِي، فَكُلُّ شَيْءٍ بَاطِلٌ كَمُلاحَقَةِ الرِّيحِ. الجامعة 2: 16-17
إذن، ما الخُلاصة؟
لا يُعلمنا الكتاب المقدس أن تلك الأشياء خاطئة في حد ذاتها. فقد منحنا إياها خالقنا- يهوه الله- لتكون موضع تقدير. فهو يُريد أن نتمتع بملذاتنا وبعملنا وفوق كل هذا، يجب أن نطلب الحكمة لأنه خير أن نبقى في النور وليس في الظُلمة (الجامعة 2: 13). ويُوضح الجامعة هذا كاتبًا:
فَلَيْسَ أَفْضَلُ لِلإِنْسَانِ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ وَيَتَمَتَّعَ بِتَعَبِ يَدَيْهِ. وَهَذَا أَيْضاً، كَمَا أَرَى، هُوَ مِنْ يَدِ اللهِ. إِذْ بِمَعْزِلٍ عَنْهُ مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأْكُلَ وَيَسْتَمْتِعَ؟ لأَنَّ الْمَرْءَ الَّذِي يَحْظَى بِرِضَى اللهِ يُنْعِمُ اللهُ عَلَيْهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْفَرَحِ. أَمَّا الْخَاطِئُ فَيَفْرِضُ عَلَيْهِ عَنَاءَ الْجَمْعِ وَالادِّخَارِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ مِنْ نَصِيبِ مَنْ يُرْضِي اللهَ. وَهَذَا أَيْضاً بَاطِلٌ كَمُلاحَقَةِ الرِّيحِ. الجامعة 2: 24-26.
تظل كل هذه موضع تقدير إن كانت في حدود المعقول وفي أوقاتها المناسبة. ولكنها في حد ذاتها لا تُشبع. إن غايتنا الأبدية لا تتحقق بكثرة الملذات والأعمال والحكمة.
إنما الغاية من حياة كل إنسان هي أن "يتَّقِ اللهَ، وَيحْفَظْ وَصَايَاهُ" (الجامعة 12: 13). لقد خلقنا الله لغرض مُعيَّن (أمثال 16: 4). فقد اختارنا لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلَا لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي ٱلْمَحَبَّةِ(افسس 1: 4)، لذا كل الأشياء تعمل معًا لأجل الخير في حياتنا (رومية 8: 28). ونبلغ غايتنا بأن نكون كما أرادنا الله أن نكون. ولن يكون مستقبلنا بلا مغزى بل يكون لنا فيه رجاء، إذ نتطلَّع إلى مجد الله في السماء (رومية 2: 6-7). ونتطلع بوعود الله إلى حياة تفوق ما نراه بأعيننا ونختبره بأجسادنا. وحين نخاف الله نؤمن بهذه الوعود، ونُمجده في العبادة، ونتجنب سُخطه. وهكذا، يُشكل الخالق حياتنا، ويعِدنا بأبدية معه.
لم يتركنا يهوه نُكمل هذه الغاية بمفردنا. فلنا رجاء تحقيقها بعمل الخالق المُتجسَّد، الرب يسوع المسيح. تُعلمنا رومية 8: 29-30 هذا إذ تقول:
لأَنَّ الَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ، سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ أَيْضاً لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ابْنِهِ لِيَكُونَ هُوَ الْبِكْرَ بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ. وَالَّذِينَ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ، فَهؤُلاءِ دَعَاهُمْ أَيْضاً. وَالَّذِينَ دَعَاهُمْ، فَهؤُلاءِ بَرَّرَهُمْ أَيْضاً. وَالَّذِينَ بَرَّرَهُمْ، فَهؤُلاءِ مَجَّدَهُمْ أَيْضاً. رومية 8: 29-30
ما يعنيه هذا النَصّ هو أننا، سنصير على صورة الرب يسوع المسيح الذي عاش حياة كاملة بلا خطيَّة. وسنتبرر به وسنتمجد معه. لقد تألم الرب يسوع في حياته على الأرض ومات بالجسد، لكنه قام بقوة الله. لذا، فحياتنا ليست بلا رجاء أو بلا مغزى. لأن لنا الرجاء ذاته، رجاء الحياة الأبديَّة بمجد. يقول الرب يسوع عن نفسه في يوحنا 6: 40 "نَعَمْ! إِنَّ مَشِيئَةَ أَبِي هِيَ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَرَى الاِبْنَ وَيُؤْمِنُ بِهِ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ، وَسَأُقِيمُهُ أَنَا فِي الْيَوْمِ الأَخِير". لا يرى العالم قصد الله بالسعي وراء الأهواء، أو الإنجازات، أو الحكمة. لكننا نحن يتمثل هدفنا للحياة الأبدية في "إِنَّنَا نَتَكَلَّمُ بِحِكْمَةِ اللهِ السِّرَّيَّةِ، تِلْكَ الْحِكْمَةِ الْمَحْجُوبَةِ الَّتِي سَبَقَ اللهُ فَأَعَدَّهَا قَبْلَ الدُّهُورِ لأَجْلِ مَجْدِنَا «إِنَّ مَا لَمْ تَرَهُ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ بِهِ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ بَشَرٍ قَدْ أَعَدَّهُ اللهُ لِمُحِبِّيهِ" (كورنثوس الأولى 2: 7-9).